أكتب هذا ليس بصفتي مدافعة عن حقوق الإنسان كما هو معروف عني، بل بصفتي إبنة والدين بحرينيين رسما لنا صورة مثالية للبحرين منذ أن كنا صغاراً نكبر في المنفى بالدنمارك. كوني قد ولدت في سوريا لوالدين ناشطين قد أُجبرا على مغادرة البحرين، ثم العيش في الدنمارك، لم أكن أعرف البحرين التي لطاما حكى عنها والديّ حتى انتقلنا هناك عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر. كان المجتمع البحريني في الدنمارك صغيراً نوعا ما، يتكون من إحدى وعشرين عائلة. فعل والدانا كل ما بوسعهما للتأكد من كوننا نتربى في بيئة تحفظ الهوية البحرينية لدينا. كنا نجتمع في الجمعية البحرينية الدنماركية مرة واحدة في الأسبوع حيث ينظمون لنا برامج حول الثقافة والمجتمع البحريني. حفظنا وأنشدنا الأناشيد عن حب البحرين، ومثلنا مسرحيات من مسلسل بحريني قديم، واحتفلنا بالمناسبات الدينية والوطنية.
كانت البحرين في عقولنا جنة -أرض المليون نخلة، ينابيع المياه العذبة الطبيعية مثل عين عذاري، والشمس الحارقة. يذكر والداي إحدى الرحلات التي كانت تعد سابقاً من الرحلات الطويلة (عشر دقائق من السياقة في وقتنا الحالي) إلى عين عذاري من أجل السباحة في الينابيع الطبيعية، والجلوس تحت النخيل بحثاً عن الظل. كان جدي يمتلك مخزناً لمعدات الصيد في الوقت الذي ازدهرت فيه مهنة صيد الأسماك و لم يتم حكرها بعد على الأسرة الحاكمة آنذاك. وكانت البحرين صورةً لغواصي اللؤلؤ والرجال البحرينين بالزي المحلي لصيد الأسماك. وبطبيعة الحال، علمنا أيضاً بقمع آل خليفة في البحرين. كان عمي سجيناً سياسياً، مثل آلاف آخرين خلال عام 1990. كان التعذيب ممنهجاً، وكانت انتهاكات حقوق الإنسان متفشية. تعرض الناس للتعذيب حتى الموت، وكبرنا على سماع قصص حول كيفية نفي العديد من الأفراد والعوائل قسراً، إضافةً إلى سحب جنسايتهم. عرفنا إيان هندرسون حينها، ذلك الرجل البريطاني الذي أوجد العديد من وسائل التعذيب المستحدثة والأكثر إيلاماً والتي استعملها النظام. وكان عادل فليفل ذراعه الأيمن.
]صورة للكاتبة وهي تمثل دور صياد في مسرحية[
]صورة للكاتبة مع أختها باللباس البحريني التراثي[
طوال طفولتنا، أنفق والدي، عبد الهادي الخواجة كل وقته من أجل النضال لحقوق السجناء السياسيين من خلال عمله بالمنظمة البحرينية لحقوق الإنسان، التي كان مقرها في كوبنهاغن. سافر كثيراً، وقضى الكثير من الوقت في كتابة التقارير والبيانات المفصلة عن حالة السجناء السياسيين في البحرين. علّمنا، في سنٍ مبكر، هو وأمي بأن وجود الضمير هو ما يجعلك إنساناً، وأن أعظم إنجاز في الحياة هو مساعدة الآخرين. والدتي، خديجة الموسوي، علمتنا اللغة العربية، وكانت تتأكد من أننا نشاهد المسلسلات الكارتونية العربية. لدي ذاكرة متميزة، أتذكر كيف كانت جالسةً على سجادة الصلاة، والدموع تنهمر على خديها بعد أن تحدثت إلى أفراد العائلة الذين لم ترهم منذ سنوات. كلا والدي والدتي فارقا الحياة بينما كانت في المنفى. كانت آخر أمنية لجدتي هي أن ترى ابنتها الصغرى. عندما توفي جدي في عام 1996، كانت المرة الأولى التي أرى فيها والدي يبكي. حزم حقائبه في اليوم التالي وسافر للبحرين على الرغم من خطر وشيك بتعرضه للاعتقال والتعذيب. تم احتجازه في المطار لمدة أسبوع تقريباً، وانتظرنا ما إذا كان سيتم اعتقاله أو ترحيله مرة أخرى إلى الدنمارك. وتم ترحيله بعد ذلك.
بعد عدة سنوات، وتحديداً في عام 1999 توفي الأمير السابق وتولّى ابنه حمد آل خليفة مقاليد السلطة. وبدأ بالحديث عن التغيير، وعن نظام ملكي دستوري حقيقي. وأساس هذا الوعد كان السماح للمنفيين بالعودة إلى وطنهم، وإعادة الجنسية لهم. أُفرج عن السجناء السياسيين وعاد من هم في المنفى، ولكن البقية لم تكن سوى وعود فارغة. قام منفرداً بتغيير الدستور في عام 2002، وأسس ملكية مطلقة، معلناً نفسه ملكاً، وأعطى الحصانة لأولئك الذين شاركوا في جرائم التعذيب والقتل خارج نطاق القانون. كما أعاد تعيين عمه رئيساً للوزراء والذي كان قد استلم هذا المنصب منذ عام 1971 وهو معروف بكونه أكتر المتشددين تطرفاً في العائلة الحاكمة.
]صورة لوالديّ الكاتبة[
عندما انتقلنا إلى البحرين في عام 2001، أخذنا والداي في جولة حول البحرين ليرونا الأماكن التي نشآ فيها. كنت أرى نظرة الحب في عينيهما، ولكني رأيت أيضاً خيبة الأمل من تغير كل شيء. فقد تخلص النظام من معظم النخيل، والعديد من ينابيع المياه العذبة الطبيعية قد جفت. أتذكر أنني سمعت والدي يقول أنه إذا لم تتحرك المعارضة في البحرين بسرعة للحفاظ على مواقع التراث البحريني، لن يبقى شيء لإنقاذه في خمس عشرة إلى عشرين سنة. أنا لم أفهم تماماً ما كان يعنيه والدي في ذلك الوقت.
خلال السنوات العشر التي عشتها في البحرين، فهمت المعنى وراء تنبيه والدي حيث استشرت عمليات ردم البحار، وباب البحرين لم يعد مدخلاً إلى الجزيرة. بدلاً من الاستثمار في الأجزاء غير المتطورة من البحرين، شغلت العائلة الحاكمة نفسها في تحريك مساحة من مناطق معينة من الجزيرة الرئيسية ودفنها في البحر لخلق المزيد من مساحة الأراضي التي تحولت لاحقاً إلى مراكز تجارية اشتراها رئيس الوزراء بدولار واحد، أو إلى وحدات سكنية خاصة لا يتحمل تكلفتها الباهظة سوى الأغنياء. في هذه العملية، قضوا على الكثير من معالم الحياة البحرية. لقد تحدثت مع موظف في إحدى الوزارات البحرينية وقال لي إنه كان عضواً من المجموعة المسؤولة عن تربية أنواع مختلفة من الأسماك –استزراع الأسماك- حيث كان هدفهم إعادة الأسماك للبحر للتعويض عن كميات السمك التي فقدت بسبب عمليات ردم البحر. ومع ذلك، ماتت جميع الأسماك في غضون أسبوع من العيش في هذه المياه. قال لي الموظف إن الوزارة لم تسمح بتثبيت هذه الحالة في الوثائق الرسمية.
لم يكن القصد من عمليات ردم البحار بعواقبها البيئية المدمرة، النهوض بالإقتصاد البحريني حيث كانت جميع الأرباح تُسلّم لأفراد من العائلة الحاكمة كانوا يملكون هذه الأراضي. في عام 2009 غادرت البحرين ولمدة عام للالتحاق ببرنامج فولبرايت بالولايات المتحدة وعند عودتي قمت بزيارة واحدة من المناطق المفضلة لدي في البحرين، الشاطئ القريب من خط الفاتح السريع والتي كانت حتى عام 2009 لم تلمس. في غضون سنة لم تعد المياه مرئية حيث غطتها رمال مشروع الردم الجديد. أم الصبان، واحدة من جزر البحرين تمت إعادة تسميتها بـ "جزيرة المحمدية" بعد زعم محمد بن سلمان أخ رئيس الوزراء ملكيته لها وهو مثال على ما يمكن أن تبدو عليه البحرين.
خلال العامين الماضيين، هدمت العائلة الحاكمة عدداً من المساجد وكان بعض هذه المساجد موجوداً في البحرين قبل وصول آل خليفة. كان هذا شكلاً من أشكال الاضطهاد ضد الأغلبية الشيعية في البحرين وجزءً من الحملة الطائفية الواسعة التي تهدف إلى معاقبة المطالبين بالحقوق المدنية. وعلى غرار ردم البحار، هدمت هذه المساجد ودُمِّر نصب اللؤلؤة بقرار سياسي يخدم مصلحة النظام في حصر تواجد المعارضة في الأماكن العامة. وكانت هذه العملية ذات شقين فبالإضافة إلى القرار السياسي بهدم الأماكن العامة، تم استبدال هذه المعالم والمواقع التاريخية واستهدافها عمداً لتهميش السكان الشيعة. فعلى سبيل المثال، بعد أن تم هدم نصب اللؤلؤة، أعادو تسميته بـ "تقاطع الفاروق"، الأمر الذي يخدم السرد الطائفي من التاريخ الإسلامي. وبالإضافة إلى ذلك، بعد أن تم هدم أحد المساجد الشيعية التاريخية، أعلنت الحكومة أنه سيتم تحويل موقعه إلى حديقة عامة، الأمر الذي يحيّد المساحة ويمحو تاريخ الشيعة في البحرين.
]صورة جزيرة أم الصبان[
التغييرات في تركيبة السكان وتأثيرها على الوضع المعيشي للسكان المحليين والعمالة الوافدة تقول الكثير أيضاً. سوق المنامة التاريخي، على سبيل المثال، أصبح موطناً للآلاف من العمال المهاجرين ويطلق عليه السكان المحليون مومباي البحرين. هؤلاء المهاجرين يتقاضون أجوراً متدنية ويعملون أعمالاً شاقة، تم جلبهم للبحرين أساساً من قبل أفراد من الأسرة الحاكمة مما يزيد الكثافة السكانية في المنامة ويسبب خللاً في التركيبة السكانية. ويسمح للمواطنين البحرينيين بالسكن في ثلاث من الجزر الثلاث والثلاثين التي تتألف منها البحرين فقط. أوسط هذه الجزر هي عادةً ما يتم الإشارة لخريطة البحرين بها حيث يسمح للمواطنين بدخول الجزء العلوي منها فقط بينما تملك العائلة الحاكمة باقي الجزر وتمنع وصول المواطنين لها. وبعض هذه الجزر قد أعطيت سابقاً كهدايا لملوك وحكام خليجيين ومعظم الجزر الرئيسية مملوكة بشكل خاص مما يجعل البحرين الجزيرة الوحيدة في العالم التي تشكل 97% من سواحلها ملكيات خاصة وما تبقى منها (13%) هي تلك المفتوحة للجميع وعادة ما تكون غير مطورة وقذرة جداً.
الفقر والبطالة واضحان في البحرين الغنية بالنفط، حيث يعيش الناس في منازل مهّدمة وآيلة للسقوط، حيث الشوارع غير المعبدة هي السائدة في تلك المناطق السكنية، حيث لا وجود لنظام الصرف الصحي مما يؤدي إلى انغمار تلك المناطق عند هطول الأمطار. وبدلاً من الاستثمار في أعمال البنية التحتية الأساسية، بنى النظام جسراً بعد جسر لتخطي الشوارع المزدحمة والأحياء المكتظة بالسكان والتي جردت العائلة الحاكمة العديد من السكان الأصليين فيها من أراضيهم، غير أن بعضهم واصل العمل فيها رغم عدم امتلاكه لها. هذا وغيره من أشكال الفساد المنتشر على نطاق واسع في البحرين هو موضوع المناقشة والسخرية في الكثير من التجمعات الخاصة. وهناك نكتة يكررونها وهي أن مشروع معين مُنح الملايين من الدنانير كان قد اكتمل نصفه ولكن تم إيقاف العمل فيه بسبب اختفاء غالبية الأموال بعد تمرير المشروع على أكثر من مقاول.
يعامل حكام البحرين الذين تولوا الحكم منذ ما يقرب من 230 عاماً البلاد كنموذج للشركة التجارية الخاصة. فلحماية استثماراتهم من شعب البحرين، جلبوا عشرات الآلاف من المرتزقة من بلدان مثل باكستان والأردن وسوريا واليمن للحفاظ على قبضتهم الاستبدادية على السلطة. هذا أيضاً يخدم هدفهم في تغيير التركيبة السكانية في البحرين من أغلبية شيعة إلى أغلبية سنية حيث أن السنة هم فقط من يتم تجنيسهم سياسياً. إن عضوية البحرين في مجلس التعاون الخليجي ودخولها في تحالف مع الملكيات الأخرى في الخليج، والمملكة المتحدة إضافة إلى الولايات المتحدة وفّر لها حماية من التدقيق والمساءلة الدولية. وكثيراً ما يشكو البحرينيون بأن البحرين ليست دولة آل خليفة وأن البحرينيين ليسوا شعبهم. فالبحرينيون يتهمون الحكام الذين غزو البلاد بالقوة بمعاملة البحرين كمركز شخصي للمال وأنهم لا يهتمون لعواقب أفعالهم الضارة التي لا رجعة فيها.
]صورة قرية في البحرين[
في حين أن الموارد الطبيعية والثقافية تتضاءل بسرعة، إلا أن البحرين لا تزال تمتلك من رأس المال والموارد البشرية اللازمة النسبة الكافية لرسم مسار أكثر إنصافاً واستدامةً لجميع مواطنيها. هذا على الرغم من الظلم الكبير والمعاناة التي شهدها العديد من البحرينيين على يد النظام وقوات الأمن التابعة له. وقد أعلنت حملة تمرد عن احتجاجات واسعة النطاق في 14 أغسطس 2013، الذي يصادف يوم استقلال البحرين من الاستعمار البريطاني. يأتي هذا الإعلان كخطوة أخرى من خطوات الثورة التي بدأت في 14 فبراير 2011 للمطالبة بالحق الأساسي في تقرير المصير.
كما حذر والداي قبل عقدين من الزمن، نظراً للحالة الراهنة، قريباً سوف لن يبقى سوى القليل لنقاتل من أجله. فمنذ عام 1920، شهدت البحرين عدة انتفاضات مطالبة بالحقوق والحريات المدنية الأساسية. أولادي والأجيال القادمة لن يسبحوا في مياه الينابيع الطبيعية، كما لن يتمكنوا من التمتع بظل الملايين من النخيل التي كانت يوماً هي البحرين. كل ما سيبقى هو اقتصادٌ مختل، وسرابٌ من ذكريات والديّ الجميلة عن البحرين سابقاً.
]صورة قديمة للبحرين[